[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]عرفت الوحدة بالرغم من الصخب الذي يملأ المكان منذ أن تفتح عيناها وحتى ساعات الليل المتأخّرة. سريرٌ وأمتارٌ قليلة تتقاسمها مع أختها الصغيرة. ليس لها عالم خاص ولا تملك مكانًا تحتفظ فيه بأسرارها المتواضعة. قصائد وقصاصات أوراق وحكايا لم تجد آذانًا تصغي لها! حكايا عن فوارس يأتون على أحصنةٍ بيضاء حتى وإن كانوا يرتدون أسمالاً.
كانت تجد السلوى في عالم قطة بيضاء مخطوطة بالأسود تعيش في فناء المنزل. كانت تقدّم لها الحليب وكسر الخبز وبقايا الطعام. وكانت تقصّ عليها الكثير من قصص الأميرات اللواتي يلدن وفي أرجلهنّ أحذية مذهبة ومطرّزة ويرتدين الوفير من اللباس والحرير والصوف والمخمل، ويتضمخن بالعطر العبق برائحة الصندل والمسك والياسمين. لكنّها كانت تكتفي بمناجاة قطتها التي كانت تتكوّم في حجرها وتنظر لها بلهفة وكأنّها تفهم كلّ كلمة تقولها! أسمتها سندريلا، لعلّها تتمكن من إرضاء رغبات قطتها الصغيرة، لعلّها تطفئ جوعها وتمنع عنها الجوع والبرد والعطش، لعلّها تشعر بأنّها تحظى بدلال سندريلا التي حُرمت منه خلال أيام طفولتها وثورة جسدها التي انطفأت في رحلتها اليومية ما بين غسل الصحون والملابس وخياطة أطنان الملابس لتأمين لقمة العيش.
لم يشفع لها جمالها وشعرها الذهبي وعيناها الخضراء وابتسامتها الساحرة ونظرتها الناعسة وأحلامها التي تجاوزت حدود الوعي! لم يشفع لها جموحها وطموحها وأفكارها وطيبتها وقدرتها على محبة الناس والشجر والقطط بل وحتى الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة والأمواج العاتية وغضب الشتاء والعواصف والأعاصير والبراكين والرعد والبرق وسطوة الرجال والفقر ورغيف الخبز الذي أحنى ظهرها وطأطأت من أجل جلالته رأسَها! لم تشفع لها أنوثتها ورقيّ مشاعرها وانفلاتها من حمّى الزمن! كانت مجرّد فتاة بسيطة حرمت من جميع الفرص المواتية لتصبح عنصرًا فاعلاً في الشرق الغارق في عرق الرجولة والأصوات المبحوحة والأيدي الخشنة وقسوة النهار الذي يمضي ولا يمضي دون أن يحمل معه ما تيسّر من أرواحٍ لم تحتمل وقع مطرقة الصباح الذي انبلج قبل قليل مع أشعة شمسِ المتوسّط!
لم يكن فارسًا لكنه كان يرتدي أسمالاً. لم تكن الشمس تقف على جبينه كلّ يومٍ لتصمه بالرجولة بل كانت تنزلق نحو المغيب خجلاً! وشاءت الظروف أن يكون اسمه فارس أيضًا! تقدّم لخطبتها وكان أمامها مهلة لا تزيد عن عشرة دقائق لتوافق أو ترفض! هل بوسعِ المرأة أن تتّخذ قرارًا مصيريًا بهذه السرعة؟ كان عليها أن تفكّر بسنواتٍ طويلة قادمة حين يصبح بيتها مليءٌ بالأطفال، هل سيكونون سعداء في كنف فارس؟ هل ستشعر بالرضا والحنان الذي فقدته طِوال حياتها في بيتها الجديد؟ كانت الأسئلة تتهادى أمام عينيها عندما اعتبر الآخرون أصحابُ الأمرِ والنهي صمتَها قبولاً ومضوا يزفّون الدمية لصاحبها ووليّ نعمتها فارس!
لا .. لا. أنا لم أقرّر بعد إن كنت موافقة أم لا! أنا ما زلتُ أستشعر المستقبل، أحدّث أطفالي الذين سيكونون، دعوني بالله عليكم أنهي مناجاتي للقمر ووحيد القرن والعقارب لعلّها تخبرني ببعض أسرار الخليقة التي غابت عنّي في وهلة من الزمن! أنتم قساة وقد أشتكي لعين الشمس ولعلاء الدين صاحب القناديل المضيئة! ألا تؤمنون بقدراته السحريّة؟ ألا تؤمنون بالجمال والبراءة المذبوحة عند قصور الملوك والأباطرة؟
زفّت على نارٍ هادئة، وكان صوت الموسيقى خافتًا والغناء ليس كالغناء! يا أمّي لماذا يبدو عرسي حزينًا؟ وكان فارس في تلك الأثناء يفتل شاربه الصغير، كان يشحذ أنيابه لافتراسها وافتراشها واغتصابها وانتهاك عالمها مرّة واحدة، بعد أن دفع قروشًا مهرًا ميّسرًا لتلك الصغيرة الفقيرة، سمحوا لها يوم عرسها بأن تعمل ساعة واحدة أقلّ من دوامها المعتاد، وكان من المتوقّع أن تعود لعملها بعد يومين في أحسن الأحوال. خفتت الموسيقى وانفضّ الحضور مبتعدين عن وجار الذئب. جلس قبالتها وكان طوال الوقت صامتًا ينقّل أنظاره إلى صدرها وحمرة خدّها وأعلى فخذيها. ابتسم بجرأة وخرج من غرفة النوم ليعود بعد قليل يحمل بين يديه القطّة سندريلا.
- حامل!
صرخت بكلّ ما أوتيت من قوّة.
- حامل!
حتى الصمّ سمعوا صدى صرختها حين امتدّت يده لعنق سندريلا الوديع. كان الألم يعصر وجهًا بشريًّا ووجهَ سندريلا التي فارقت الحياة بعد أن سُمع طقطقةُ رقبتها ومعها ماتت ثلاث قطط لم ترَ أشعة المتوسّط أبدًا!
لم يتمكّن الكثيرون من فهم الأسباب التي دفعتها لقتل عريسها بتلك الوحشيّة ليلة الدخلة! كانوا قد وجدوا جثّة فارس غارقة بالدماء صباح اليوم التالي، بعد تعرّضها لعدّة طعنات بسكّين ذي رأس حادّة، كانت إحداها فاتكة بعد أن استقرّت في القلب مباشرة. كان هو ملقيًا فوق السرير عاريًا. وكانت هي ما تزال مرتديّة ثوب عرسها الأبيض، كانت تنظر في الفراغ وفي حضنها ترقد قطّة بيضاء، رأسُها مائلٌ على صدرها وكأنّها تنتظر شيئًا من الحليب تدلقه في فيها لتطعم صغارَها الذين لم يتمكّنوا من رؤية أشعة شمس المتوسّط أبدًا.